تونس وتلك قصة أخرى.إهداء إلى التونسيين الرائعين
تونس |
حين تأتي إلى تونس تكتشف أن نزار قباني لم يكن محقاً، حينما قال لا توجد منطقة وسطى ما بين الجنة والنار. ثمة منطقة وسطى بين الجنة والنار. منطقة عجائبية غرائبية، اسمها الحركي " تونس" وهو مرادف للذة الجمر، وموازٍ للضلالة الشاهقة، ومتاخم لقلق الشياطين، ومجاور لطهر الملائكة وعلى مرمى نبضات من صفو النسّاك، ومحاذٍ لشغف الصعاليك..
قصة أخرى: ليست شوارع وميادين وساحات تتداخل بجوار مذهل: نهج الخرطوم- نهج باريس- نهج جمال عبد الناصر - نهج شارل ديجول، ليست حالات قلقة تتواتر في شارع الحبيب بورقيبة، قلقها أقرب إلى (الوتر القلق) في العود، وهو أعذبها لحناً. أحياناً تشعر أن بيت المتنبي الذي يقول فيه: على قلقٍ كأن الريح تحتي تسيرني يميناً أو شمالاً قيل في هؤلاء الناس الذين شاهدتهم، وجالستهم، وأفسحوا لي مكاناً بينهم.
سئلت أم كلثوم في أحد الحوارات عن أكثر شعب (سميع) لأغانيها في الوطن العربي، فأجابت الشعب التونسي. ولم يزل هذا الشعب على درجة الامتياز في الاستماع والإنصات، وهم أيضا متذوقون بامتياز للألحان الغربية. (الفرنسية) لا تشعر أنها لغة دخيلة، تشعر أنها دارجة. وثمة مفارقة غريبة.. في تونس لا يقولون تتكلم بالفرنسية يقولون تتكلم بـ(السوري)، حاولت أن أجد تفسيراً لهذه المفردة. لم أجد إجابات مقنعة عند العامة. فلجأت إلى صديقي التونسي السيميائي المعروف: عبد الرازق بالنور..ولم أتحصل أيضاً على إجابة شافية !! كان عبوري إلى قلب تونس مختلفاً، وكانت مصافحتي لها مغايرة، هذه زيارتي الأولى لتلك العاصمة.. التي لا تنفسح أمامك بيسر، ولا تهبك مفاتحها بسهولة ولا تتيح لك ببساطة محاورتها، لا تمضي على وتيرة واحدة على الرغم مما قد يبدو دليلاً على ذلك.
"تونس" نطقي لحروفها الآن، ليس بالمذاق الأول الذي اعتدته قبل أن أراها. وتصوري عنها ينهض في إيهاب آخر، مزيج عجيب غريب.. مرتبك، قلق، مجادل، أقرب ما يكون إلى مسرح (الجبالي) و(الجعايبي) خاصة في مسرحية (الناس الأخرى).. و(يحيى يعيش) أقرب ما يكون إلى الحالة الغرائبية المتواترة في شارع (الحبيب). أقرب ما يكون إلى نصوص (يوسف رزوقة) خاصة في ديوانه:
(الفراشة والديناميت)، أقرب إلى الجو الصوفي عند سيدي (الشاذلي) أو الجو الأسطوري في سيدي بوسعيد.. لا.. تونس قصة أخرى.. تنتج في كل يوم مهرجانا، وتنظم معرضاً، وتقيم فاعلية ثقافية.. لا تحب السهر.. لكنها تحب السمر.. تتيح لك مباهجها حين تصدقها، تسّلم عليك، وتأخذك من يديك، تطوف بك (أنهجها) و(ميادينها) .. تُسلمك إلى أزقتها الدافئة، وتسرّبك في غلالات حسناواتها، وتحيلك إلى مزاجها العالي حين تصفو في محبتها. نعم سيتناقص حُسن العالم لو لم يخلق الله تونس، بكل هذه الخلطة السحرية، وهذا الصلصال الغوائي، وذاك الطين الفاره المشتعل. الطريق إلى المعرض الشعور الأول الذي يترسّخ لديك في تونس للوهلة الأولى، أن ثمة قانوناً اتفق الجميع أن يكون هو الحكم وهو الفيصل. ورتبوا حياتهم وفق ما توافقوا عليه من قوانين. حركة مرورية منظمة، السرعة القانونية يلتزم بها الأغلبية، الشوارع التي مررنا بها واسعة، رقابة رادارية متواصلة، رقابة مرورية دؤوبة، يُمنع (التدخين) داخل سيارات الركوبة، التزام دقيق بقراءة (العدّاد).
وجهتنا (الكرْمَ) منهم من قال لنا أن اسمها يعود إلى كرم أهلها، ومنهم قال إنما يعود إلى وجود كرم العنب في مزارعها. مررنا بمنطقة (البحيرة) قيل لنا أن هذه المساحة الكبيرة من البنايات، بعضها لمصانع سيارات، وبعضها أماكن لشعارات، وبعضها مقرات مصارف المهم أنّ هذه المساحات كانت إلى فترة ليست بالبعيدة تغطيها المياه.. ولم يزل ردم البحيرة مستمراً في ضفة من ضفافها، وحركة العمران متواصلة، وثمة استثمارات ليبية بهذه المنطقة حسبما أبلغنا بعضهم.
وصلنا (الكرم) بعد حوالي 20 دقيقة، فالطريق غير مزدحمة، الواحدة ظهراً تقريبا المنطقة هادئة.. الدخول منظم للغاية.. رسم الدخول (نصف دينار) بوابات تقليدية، لكنها تؤدي بجدارة دور البوابات الحديثة، تدخلك ولا تسمح لك بالرجوع عبرها،إلا من منافذ أخرى. المدخل مجهز بشكل بسيط جدا، لا مغالاة فيه، شعار المعرض مصمم بطريقة مذهلة يغلب عليه اللون الأزرق بدرجاته. خطوات قليلة وتجد نفسك داخل أروقة المعرض التي حملت أسماء لأعلام تونسيين معروفين، هي أول من يطالعك لبروزها بشكل كبير، أيضاً سيصادفك مشهد جميل، مشهد يشعرك بأن ثمة فكراً راقياً وراء هذه التنظيمات والترتيبات، (ورش أطفال) على مساحة كبيرة للقراءة وللرسم، وللحاسوب، يمارس فيها الأطفال كل ما يحبون.
مظاهر طفولية جميلة ستتكرر مشاهدتنا لها في كل يوم. عشرات دور النشر التونسية والعربية والعالمية، كل يعلن عن نفسه بطريقته، عناوين شتى حلقات نقاش تنظمها المراكز الثقافية الأجنبية الموجودة في تونس داخل أجنحتها. بسط حُمر نظيفة طرحت على امتداد المعرض.. من حين حين لآخر يصادفك وفد مدرسي يزور المعرض، أماكن مخصصة للمطاعم وللمقاهي.. اختلاف شاسع بينه وبين معرض القاهرة الدولي للكتاب، أجواء أخرى، ومذاق آخر.. وقصة أخرى. مضيت رفقة الصديق ناصر الدعيسي باتجاه جناح مجلس الثقافة العام. بلغناه فوجدناه في أجمل (حُلة) أول من يصافحك باقات ورود جميلة، تحيلك إلى أجواء رومانسية، تندمج مع الحالة العامة التي تسيطر على المعرض، تتداخل الورود وتتشابك، لكن النتيجة في النهاية: عطر يشيع في الأماكن.. الأماكن كلها.. عطرها طازج لا يبرد أبداً!! شباب المجلس بقيافته الأنيقة يستقبلون رواد الجناح: أغلفة الكتب الرائعة شكَّلت لوحدها معرضاً تشكيليا، تناغمت مع الورد (البلدي) و(الفل) و(القرنفل) و(البنفسج).. بينما الزينة التي توزعت كسقف معلق مزركش بألوان ساحرة، تضيف بعداً مجالياً آخر للجناح البهي الأنيق.
تعليقات
إرسال تعليق